الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **
ثم في رابع عشرينه قدم البريد من دمشق بأن الأمير قرابغا فرج الله والأمير بزلار العمري الناصري والأمير دمرداش اليوسفي والأمير كمشبغا الخاصكي الأشرفي وآقبغا قبجق اجتمع معهم عدة كثيرة من المماليك المنفيين بطرابلس ووثبوا على نائبها الأمير أسندمر المحمدي وقبضوا عليه وقتلوا من أمراء طرابلس الأمير صلاح الدين خليل بن سنجر وابنه وقبضوا على جماعة كبيرة من أمراء طرابلس ثم دخل الجميع في طاعة الناصري وكاتبوه بذلك وملكوا مدينة طرابلس. وفي يوم وصول هذا الخبر على السلطان عرض السلطان المماليك السلطانية وعين منهم أربعمائة وثلاثين مملوكًا من المماليك السلطانية للسفر وعين خمسة من أمراء الألوف بديار مصر وهم: الأمير الكبير أيتمش البجاسي والأمير جاركس الخليلي الأمير آخور الكبير والأمير شهاب الدين أحمد بن يلبغا أمير مجلس والأمير يونس النوروزي الدوادار الكبير والأمير أيدكار حاجب الحجاب. وعين من أمراء الطبلخاناه سبعة وهم: فارس الصرغتمشي وبكلمش العلائي رأس نوبة وجاركس المحمدي وشاهين الصرغتمشي وآقبغا الصغير السلطاني وإينال الجاركسي أمير آخور وقديد القلمطاوي. وعين من أمراء العشرات جماعة كبيرة. ثم أرسل السلطان للأمير أيتمش برسم النفقة مائتي ألف درهم فضة وعشرة آلاف دينار ذهبًا مصريًا. ثم أرسل إلى كل من أمراء الألوف ممن عين للسفر مائة ألف درهم وخمسة آلاف دينار ما خلا أيدكار حاجب الحجاب فإنه حمل إليه مبلغ ستين ألف درهم وألفًا وأربعمائة دينار. ثم في سادس عشرين صفر المذكور قدم الخبر من الشام بأن مماليك الأمير سودون العثماني نائب حماة اتفقوا على قتله ففر منهم إلى دمشق وأن الأمير بيرم العزي حاجب حجاب حماة سلم حماة إلى الأمير يلبغا الناصري ودخل تحت طاعته فعظم هذا الخبر أيضًا على السلطان حتى كاد يهلك وعرض المماليك ثانيًا وعين منهم أربعة وسبعين نفرًا لتتمة خمسمائة مملوك. قلت: ولهذا تعرف هذه الواقعة بوقعة الخمسمائة وبوقعة شقحب وبوقعة الناصري ومنطاش انتهى. وفي يوم الجمعة سابع عشرين صفر رسم السلطان للأمير بجاس نائب قلعة الجبل أن يتوجه إلى الخليفة المتوكل على الله أبي عبد الله محمد بالقلعة وينقله من داره إلى البرج من القلعة ويضيق عليه ويمنع الناس من الدخول إليه ففعل بجاس ذلك فبات الخليفة ليلته بالبرج ثم أعيد من الغد إلى مكانه بالقلعة بعد أن كلم السلطان الأمراء في ذلك. ثم رسم السلطان للطواشي زين الدين مقبل الزمام بالتضييق على الأسياد أولاد السلاطين بالحوش السلطاني من القلعة ومنع من يتردد إليهم من الناس والفحص عن أحوالهم ففعل. مقبل ذلك. ثم في يوم الاثنين ثاني شهر ربيع الأول خرج البريد من مصر بتقليد الأمير طغاي تمر القبلائي أحد أمراء دمشق بنيابة طرابلس. ثم فرق السلطان في المماليك نفقة ثانية فكانت الأولى لكل واحد خمسة آلاف درهم فضة والثانية ألف درهم سوى الخيل والجمال والسلاح فإنه فرق في أرباب الجوامك لكل واحد جملين ولكل اثنين من أرباب الأخباز ثلاثة جمال ورتب لهم اللحم والجرايات والعليق فرتب لكل من رؤوس النوب في اليوم ستة عشرة عليقة ولكل من أكابر المماليك عشر علائق ولكل من أرباب الجوامك خمس علائق. ورسم أيضًا لكل مملوك من المماليك السلطانية بخمسمائة درهم بدمشق. ثم في رابع عشر شهر ربيع الأول المذكور جلس السلطان بمسجد الرديني داخل القلعة بالحريم السلطاني واستدعى الخليفة المتوكل على الله من مكانه بالقلعة فلما دخل عليه الخليفة قام الملك الظاهر له وتلقاه وأخذ في ملاطفته والاعتذار إليه واصطلحا وتحالفا ومضى الخليفة إلى موضعه بالقلعة فبعث السلطان إليه عشرة آلاف درهم وعدة بقج فيها أثواب صوف وقماش سكندري. ثم تواترت الأخبار على السلطان بدخول سائر الأمراء بالبلاد الشامية والمماليك الأشرفية واليلبغاوية في طاعة الناصري وكذلك الأمير سولي بن دلغادر أمير التركمان ونعير أمير العربان وغيرهما من التركمان والأعراب دخل الجميع في طاعة الناصري على محاربة السلطان الملك الظاهر وأن الناصري أقام أعلامًا خليفتية وأخذ جميع القلاع بالبلاد الشامية واستولى عليها ما خلا قلعة الشام وبعلبك والكرك. فقلق السلطان لذلك وكثر الاضطراب بالقاهرة وكثر كلام الناس في هذا الأمر حتى تجاوز الحد واختلفت الأقاويل كل ذلك وإلى الآن لم تخرج التجريدة من مصر فلما بلغ السلطان هذه الأخبار رسم بخروج التجريدة فخرجت الأمراء المذكورون قبل تاريخه في يوم السبت رابع عشر ربيع الأول من سنة إحدى وتسعين وسبعمائة إلى الريدانية بتجمل زائد واحتفال عظيم بالأطلاب من الخيول المزينة بسروج الذهب والكنابيش والسلاح الهائل لا سيما الأمير أيتمش والأمير أحمد بن يلبغا فإنهما أمعنا في ذلك. وكان للناس مدة طويلة لم يتجرد السلطان إلى البلاد الشامية ولا عسكره سوى سفر الأمراء في السنة الماضية إلى سيواس وكانوا بالنسبة إلى هذه التجريدة كلا شيء وتتابعتهم المماليك شيئًا بعد شيء حتى ثم أخذ السلطان بعد خروج العسكر في استجلاب خواطر الناس وأبطل الرمايات والسلف على البرسيم والشعير وإبطال قياس القصب والقلقاس والإعفاء على ذلك كله. ثم في يوم الثلاثاء أول ربيع الآخر قدم البريد بأن الأمير كمشبغا المنجكي نائب بعلبك دخل تحت طاعة يلبغا الناصري. وكذلك في خامسه قدم البريد بأن ثلاثة عشر أميرًا من أمراء دمشق وساروا إلى حلب ودخلوا في طاعة الناصري. وأما
فإنه لما وصل إلى غزة أحش الأمير جاركس الخليلي بمخامرة نائبها الأمير آقبغا الصفوي فقبض عليه وبعثه إلى الكرك وأقر في نيابة غزة الأمير حسام الدين بن باكيش. ثم في عشرين شهر ربيع الآخر قدم على السلطان رسول قرا محمد التركماني ورسول الملك الظاهر مجد الدين عيسى صاحب ماردين يخبران بقدومهما إلى خابور ويستأذنان في محاربة الناصري فأجيبا بالشكر والثناء وأذن لهما في ذلك. وأما العسكر فإنه سار من غزة حتى دخل دمشق في يوم الاثنين سابع شهر ربيع الآخر المذكور. ودخلوا دمشق بعد أن تلقاهم نائبها الأمير حسام الدين طرنطاي ودخلوا دمشق قبل وصول الناصري بعساكره إليها بمدة. وأقبل المماليك السلطانية على الفساد بدمشق واشتغلوا باللهو وأبادوا أهل دمشق شرًا حتى سئمتهم أهل الشام وانطلقت الألسنة بالوقيعة فيهم وفي مرسلهم. قلت: هو مثل سائر: الولد الخبيث يكون سببًا لوالده في اللعنة وكذلك وقع فإن أهل دمشق لما نفرت قلوبهم من المماليك الظاهرية لم يدخلوا بعد ذلك في طاعة الظاهر ألبتة على ما سيأتي ذكره. وبينما هم في ذلك جاءهم الخبر بنزول يلبغا الناصري بعساكره على خان لاجين خارج دمشق في يوم السبت تاسع عشر شهر ربيع الآخر فعند ذلك تهيأ الأمراء المصريون والشاميون إلى قتالهم وخرجوا من دمشق في يوم الاثنين حادي عشرينه إلى برزة والتقوا بالناصري على خان لاجين وتصاففوا ثم اقتتلوا قتالًا شديدًا ثبت فيه كل من الفريقين ثباتًا لم يسمع بمثله ثم تكاثر العسكر المصري وصدقوا الحملة على الناصري ومن معه فهزموهم وغيروه عن موقفه. ثم تراجع عسكر الناصري وحمل بهم والتقى العسكر السلطاني ثانيًا واصطدما صدمة هائلة ثبت فيها أيضًا الطائفتان وتقاتلا قتالًا شديدًا قتل فيها جماعة من الطائفتين حتى انكسر الناصري ثانيًا. ثم تراجع عسكره وعاد إليهم والتقاهم ثالث مرة فعندما تنازلوا في المرة الثالثة والتحم القتال أقلب الأمير أحمد بن يلبغا أمير مجلس رمحه ولحق بعساكر الناصري بمن معه من مماليكه وحواشيه ثم تبعه الأمير أيدكار العمري حاجب الحجاب أيضًا بطلبه ومماليكه ثم الأمير فارس الصرغتمشي ثم الأمير شاهين أمير آخور بمن معهم وعادوا قاتلوا العسكر المصري فعند ذلك ضعف أمر العساكر المصرية وتقهقروا وانهزموا أقبح هزيمة فلما ولوا الأدبار في أوائل الهزيمة هجم مملوك من عسكر الناصري يقال له يلبغا الزيني الأعور وضرب الأمير جاركس الخليلي الأمير آخور بالسيف فقتله وأخذ سلبه وترك رمته عارية إلى أن كفنته امرأة بعد أيام ودفنته. ثم مدت التركمان والعرب أيديهم ينهبون من انهزم من العسكر المصري ويقتلون ويأسرون من ظفروا به. وساق الأمير الكبير أيتمش البجاسي حتى لحق بدمشق وتحضن بقلعتها. وتمزق العسكر المصري وذهب كأنه لم يكن ودخل الناصري من يومه إلى دمشق بعساكره ونزل بالقصر من الميدان وتسلم القلعة بغير قتال. وأوقع الحوطة على سائر أما للعسكر وأنزل بالأمير الكبير أيتمش وقيده هو والأمير طرنطاي نائب الشام وسجنهما بقلعة دمشق وتتبع بقية الأمراء والمماليك حتى قبض من يومه أيضًا على الأمير بكلمش العلائي في عدة من أعيان المماليك الظاهرية فاعتقلهم أيضا بقلعة دمشق. ثم مدت التركمان والأجناد أيديهم في النهب فما عفوا ولا كفوا وتمادوا على هذا عدة أيام. وقدم هذا الخبر على الملك الظاهر من غزة في يوم سابع عشرين شهر ربيع الآخر المذكور فاضطربت الناس اضطرابًا عظيمًا لا سيما لما بلغهم قتل الأمير جاركس الخليلي والقبض على الأمير الكبير أيتمش البجاسي وغلقت الأسواق وانتهبت الأخباز وتشغبت الزعر وطغى أهل الفساد هذا مع ما للناس فيه من الشغل بدفن موتاهم وعظم الطاعون بمصر. كل ذلك وإلى الآن لم يعرف السلطان بقتل الأمير يونس النوروزي الدوادار على ما سيأتي ذكره. وأما السلطان الملك الظاهر برقوق فإنه لما بلغه ما وقع لعسكره وجم وتحير في أمره وعظم عليه قتل جاركس الخليلي والقبض على أيتمش أكثر من انهزام عسكره فإنهما ويونس الدوادار كانوا هم القائمين بتدبير ملكه. وأخذ يفحص عن أخبار يونس الدوادار المذكور فلم يقف له على خبر لسرعة مجيء خبر الوقعة له من مدينة غزة وإلى الآن لم يأته أحد ممن باشر الواقعة غير أنه صح عنده ما بلغه. ثم خرج السلطان إلى الإيوان بالقلعة واستدعى الأمراء والمماليك وتكلم معهم السلطان في أمر الناصري ومنطاش واستشارهم فوقع الاتفاق على خروج تجريدة ثانية فانفض الموكب. وخرج السلطان في ثامن عشر شهر ربيع الآخر إلى الإيوان وعين من المماليك السلطانية ممن اختار سفره خمسمائة مملوك وأنفق فيهم ذهبًا حسابًا عن ألف درهم فضة لكل واحد ليتوجهوا إلى دمشق صحبة الأمير سودون الطرنطائي وقام السلطان فكلمه بعض خواصه في قلة من عين من المماليك وأن العسكر الذي كان صحبة أيتمش كان أضعاف ذلك وحصل ما حصل فعرض السلطان العسكر ثانيا وعين خمسمائة أخرى ثم عين أربعمائة أخرى لتتمة ألف وأربعمائة مملوك وأنفق في الجميع ألف درهم فضة لكل واحد. ثم أنفق السلطان في المماليك الكتابية لكل مملوك مائتي درهم فضة فإنه بلغه أنهم في قلق لعدم النفقة عليهم. هذا وقد طمع كل أحد من المماليك وغيرهم في جانب الملك الظاهر لما وقع لعسكره بدمشق. ثم عمل السلطان الموكب في يوم الأربعاء أول جمادى الأولى وأنعم على كل من قرابغا البوبكري وبجاس النوروزي نائب قلعة الجبل وشيخ الصفوي وقرقماس الطشتمري بإمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية عوضًا عمن قتل أو أمسك بالبلاد الشامية. ثم أنعم السلطان أيضًا في اليوم المذكور على كل من ألجيبغا الجمالي الخازندار وألطنبغا العثماني رأس نوبة ويونس الإسعردي الرماح وقنق باي الألجاوي اللالا وأسنبغا الأرغوني شاوي وبغداد الأحمدي وأرسلان اللفاف وأحمد الأرغوني وجرباش الشيخي وألطنبغا شادي وأرنبغا المنجكي وإبراهيم بن طشتمر العلائي الدوادار وقراكسك السيفي بإمرة وأنعم على كل من السيد الشريف بكتمر الحسيني والي القاهرة كان وقنق باي الأحمدي بإمرة عشرين. وأنعم على كل من بطا الطولوتمري الظاهري ويلبغا السودوني وسودون اليحياوي وتنبك اليحياوي وأرغون شاه البيدمري وآقبغا الجمالي الهذباني وقوزي الشعباني وتغري بردي البشبغاوي والد كاتبه وبكبلاط السعدي وأرنبغا العثماني وشكر باي العثماني وأسنبغا السيفي بإمرة عشرة وكل هؤلاء مماليك الملك الظاهر برقوق وخاصكيته أمرهم في هذه الحركة وكانوا قبل ذلك من جملة الخاصكية ومنهم من هو إلى الآن لم يحضر من التجريدة. ثم قدم البريد على السلطان من قطيا بأن الأمير إينال اليوسفي أتابك دمشق المنعم عليه بنيابة حلب بعد عصيان الناصري والأمير إينال أمير آخور والأمير إياس أمير آخور دخلوا إلى غزة في عسكر كثيف من عساكر الناصري وقد صاروا قبل تاريخه من حزب الناصري واستولوا على مدينة غزة والرملة وتمزقت عساكرها فعظم لهذا الخبر جزع الملك الظاهر وتحير في أمره. ثم في يومه استدعى السلطان القضاة والأمراء والأعيان وبعث الأمير سودون الطرنطائي والأمير قرقماس الطشتمري إلى الخليفة المتوكل على الله بمسكنه في قلعة الجبل فأحضراه فلما رآه الملك الظاهر قام له وتلقاه وأجلسه وأشار إلى القضاة فحلفوا كلًا منهما للآخر على الموالاة والمناصحة وخلع السلطان على الخليفة المتوكل على الله المذكور خلعة الرضا وقيد إليه حجرة شهباء من خواص خيل السلطان بسرج ذهب وكنبوش مزركش وسلسلة ذهب وأذن له في النزول إلى داره فركب ونزل من القلعة إلى داره في موكب جليل وأعيدت إقطاعاته ورواتبه وأخلي له بيت بقلعة الجبل ليسكن فيه. ثم طلع الخليفة من يومه ونقل حرمه إلى البيت المذكور بالقلعة وصار يركب في بعض الأحيان وينزل إلى داره بالمدينة ثم يطلع من يومه إلى مسكنه بالقلعة ويبيت فيه مع أهله وحرمه واستمر على ذلك إلى ما سيأتي ذكره. ثم في يوم الجمعة ثالث جمادى الأولى المذكورة قدم الأمير شهاب الدين أحمد بن بقر أمير عرب الشرقية ومعه هجان الأمير جاركس الخليلي فحدث السلطان بتفصيل واقعة العسكر المصري مع الناصري وأنه فر مع الأمير يونس الدوادار في خمسة نفر طالبين الديار المصرية فعرض لهم الأمير عنقاء بن شطي أمير آل فضل بالقرب من خربة اللصوص من طريق دمشق وقبض على الأمير يونس الدوادار ووبخه لما كان في نفسه منه ثم قتله وحز رأسه وبعث به إلى الناصري فعندما بلغ السلطان قتل يونس الدوادار وتحققه كادت نفسه تزهق وكان بلغه هذا الخبر غير أنه لم يتحققه إلا في هذا اليوم. وبقتل يونس الدوادار استشعر كل أحد بذهاب ملك الملك الظاهر. ثم أصبح السلطان أمر بالمناداة بمصر والقاهرة بإبطال سائر المكوس من سائر ديار مصر وأعمالها فقام جميع كتاب المكوس من مجالسهم. ثم في سادس الشهر ركب الخليفة المتوكل على الله من القلعة بأمر السلطان الملك الظاهر ونزل إلى القاهرة ومعه الأمير سودون الفخري الشيخوني نائب السلطنة وقضاة القضاة وشيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقيني وسائر الحجاب وداروا في شوارع القاهرة ورجل أمامهم على فرس يقرأ ورقة فيها: إن السلطان قد أزال المكوس والمظالم وهو يأمر الناس بتقوى الله وطاعته وإنا قد سألنا العدو الباغي في الصلح فأبى وقد قوي أمره فأغلقوا دوركم وأقيموا الدروب على الحارات وقاتلوا عن أنفسكم وحريمكم. فلما سمع الناس ذلك تزايد خوفهم وقلقهم ويئس كل واحد من الملك الظاهر وأخذ الناس في العمل للتوصل إلى الناصري حتى حواشي برقوق لما سمعوا هذه المقالة وقد تحققوا بسماعها بأن الملك الظاهر لم يبق فيه بقية يلقى بها الناصري وعساكره وقول الملك الظاهر: وإنا قد سألنا العدو في الصلح فأبى وقوي فإنه كان لما توجه العسكر من مصر لقتال الناصري أمرهم برقوق أن يرسلوا له في طلب الصلح مع الناصري ففعلوا فلم ينتظم صلح ووقع ما حكيناه من القتال وغيره. ثم إن الناس لما سمعوا هذه المناداة شرعوا في عمل الدروب فجدد بالقاهرة دروب كثيرة. وأخذوا في جمع الأقوات والاستعداد للقتال والحصار وكثر كلام العامة فيما وقع وهان الملك الظاهر وعساكره في أعين الناس وقفت الحرمة وتجمع الزعر ينتظرون قيام الفتنة لينهبوا الناس وتخوف كل أحد على ماله وقماشه كل ذلك والناصري إلى الآن بدمشق. ثم انقطع أخبار الناصري عن مصر لدخول الأمير حسام الدين بن باكيش نائب غزة في طاعة الناصري. ثم قدم الخبر بدخول الأمير مأمور القلمطاوي نائب الكرك في طاعة الناصري وأنه سلم له الكرك بما فيها من الأموال والسلاح فتيقن كل أحد عند سماع هذا الخبر أيضًا بزوال ملك الملك الظاهر. هذا والأمراء والعساكر المعينة للسفر في اهتمام غير أن عزائم السلطان فاترة وقد علاه وله وداخله الخوف من غير أمر يوجب ذلك. وكان السلطان لما عين هذه التجريدة الثانية أرسل إلى بلاد الصعيد يطلب نجدة فقدم إلى القاهرة في هذا اليوم طوائف من عرب هوارة نجدة للسلطان ونزلوا تحت القلعة. ثم أمر السلطان بحفر خندق القلعة وتوعير طريق باب القلعة المعروف بباب القرافة وباب الحرس وباب الدرفيل. ثم أمر السلطان بسد خوخة الأمير أيدغمش خارج بابي زويلة فسدت حتى صار لا يدخل وفي يوم الجمعة عاشر جمادى الأولى من سنة إحدى وتسعين وسبعمائة خطب للخليفة المتوكل على الله أبي عبد الله محمد فإنه أعيد إلى الخلافة من يوم خلع عليه السلطان خلعة الرضا ثم قرئ تقليده في ثاني عشره بالمشهد النفيسي وحضره القضاة ونائب السلطنة. ولما انقضى مجلس قراءة التقليد توجهوا الجميع إلى رباط الآثار النبوية وقرأوا به صحيح البخاري ودعوا الله تعالى للسلطان الملك الظاهر برقوق بالنصر وإخماد الفتنة بين الفريقين. ثم في يوم ثالث عشرة أخلع السلطان على الأمير قرا دمرداش الأحمدي اليلبغاوي باستقراره أتابك العساكر بالديار المصرية عوضًا عن الأمير أيتمش البجاسي بحكم حبسه بقلعة دمشق وعلى الأمير سودون باق باستقراره أمير سلاح عوضًا عن قرا دمرداش المذكور وعلى الأمير قرقماس الطشتمري باستقراره دوادارًا كبيرًا عوضًا عن يونس النوروزي المقتول بيد عنقاء أمير آل فضل وعلى الأمير تمربغا المنجكي أمير آخور كبيرًا عوضًا عن الأمير جاركس الخليلي المقتول في واقعة الناصري بدمشق وعلى قرابغا البوبكري باستقراره أمير مجلس عوضًا عن أحمد بن يلبغا بحكم عصيانه ودخوله في طاعة الناصري وعلى آقبغا المارديني باستقراره حاجب الحجاب عوضًا عن أيدكار العمري الداخل أيضًا في طاعة الناصري ونزل الجميع بالخلع والتشاريف. ثم أنعم السلطان على الأمير صلاح الدين محمد بن محمد بن تنكز الناصري نائب الشام كان بإمرة طبلخاناه وعلى جلبان الكمشبغاوي الخاصكي الظاهري بإمرة طبلخاناه. وكثر في هذه الأيام تحصين السلطان لقلعة الجبل فعلم بذلك كل أحد أنه لم تخرج تجريدة من مصر ولم يثبت الملك الظاهر لقتال الناصري بما أفرزوا من أحوال السلطان خذلان من الله تعالى. ثم أخذ السلطان ينقل إلى قلعة الجبل المناجيق والمكاحل والعدد وأمر السلطان لسكان قلعة الجبل من الناس بادخار القوت بها لشهرين. ثم رسم السلطان للمعلم أحمد بن الطولوني بجمع الحجارين لسد فم وادي السحرة بجوار الجبل الأحمر وأن يبنى حائط من جوار باب الدرفيل إلى الجبل. ثم نودي بالقاهرة بأن من له فرس من أجناد الحلقة يركب للحرب ويخرج مع العسكر فكثر الهرج وتزايد قلق الناس وخوفهم وصارت الشوارع كلها ملآنة بالخيول الملبسة. هذا وإلى الآن لم يعرف السلطان ما الناصري فيه. وطلبت آلات الحرب من الخوذ والقرقلات والسيوف والأرماح بكل ثمن غال. ثم رسم السلطان للأمير حسام الدين حسين ابن علي بن الكوراني والي القاهرة بسد باب المحروق أحد أبواب القاهرة فكلمه الوالي في عدم سده فنهره وأمره بسده وسد الباب الجديد أيضًا أحد أبواب القاهرة ففعل. ثم سد باب الدرفيل المعروف قديمًا بباب سارية ويعرف في يومنا هذا بباب المدرج. ثم أمر السلطان بسد جميع الخوخ فسد عدة خوخ وركب عند قناطر السباع ثلاثة دروب: أحدها من جهة مصر والآخر من جهة قبو الكرماني والآخر بالقرب من الميدان. ثم بنى بالقاهرة عدة دروب أخر وحفر خنادق كثيرة. هذا والموت بالطاعون عمال بالديار المصرية في كل يوم يموت عدة كبيرة. وأما الأمير يلبغا الناصري نائب حلب وصاحبه منطاش نائب ملطية بمن معهما فإن الناصري لما استقر بدمشق وملكها بعد الوقعة نادى في جميع بلاد الشام وقلاعها بألا يتأخر أحد عن الحضور إلى دمشق من النواب والأمراء والأجناد ومن تأخر - سوى من عين لحفظ البلاد - قطع خبزه وسلبت نعمته. فاجتمع الناس بأسرهم في دمشق من سائر البلاد وأنفق الناصري فيهم وتجهز وتهيأ للخروج من دمشق. وبرز منها بعساكره وأمرائه من الأمراء والأكراد والتركمان والعربان - وكان اجتمع إليه خلائق كثيرة جدًا - في يوم السبت حادي عشر جمادى الأولى من سنة إحدى وتسعين وسبعمائة المقدم ذكرها بعد أن أقر في نيابة دمشق الأمير جنتمر المعروف بأخي طاز. وسار الناصري بمن معه من العساكر يريد الديار المصرية وهو يظن أنه يلقى العساكر المصرية بالقرب من الشام. واستمر في سيره على هينة إلى أن وصل إلى غزة فتلقاه نائبها حسام الدين بن باكيش بالتقادم والإقامات فسأله الناصري عن أخبار عسكر مصر فقال: لم يرد خبر بخروج عسكر من مصر وقد أرسلت جماعة كبيرة غير مرة لكشف هذا الخبر ولم يكن مني تهاود في ذلك فلم يبلغني عن الديار المصرية إلا أن برقوقا في تخوف كبير وقد استعد للحصار فلم يلتفت الناصري إلى كلامه غير أنه صار متعجبًا على عدم خروج العساكر المصرية لقتاله. ثم قال في نفسه: لعله يريد قتالنا في فم الرمل بمدينة قطيا ليكون عسكره في راحة من جواز الرمل. وأقام الناصري بغزة يومه. ثم سار الناصري من الغد يريد ديار مصر وأرسل أمامه جماعة كبيرة من أمرائه ومماليكه كشافة. واستمر في السير إلى أن نزل مدينة قطيا. وجاء الخبر بنزول الناصري بعساكره على قطيا فلم يتحرك السلطان بحركة. وفي ليلة وصول الخبر فر من أمراء مصر جماعة كبيرة إلى الناصري وهي ليلة الثلاثاء ثامن عشرين جمادى الأولى المذكورة وهم: الأمير طغيتمر الجركتمري وأرسلان اللفاف وأرنبغا العثماني في عدة كبيرة من المماليك ولحقوا بالناصري ودخلوا تحت طاعته بعدما صرفوا في طريقهم الأمير عز الدين أيحفر أبا درقة كاشف الوجه البحري وقد سار من عند الملك الظاهر لكشف الأخبار فضربوه وأخذوا جميع ما كان معه وساقوه معهم إلى الناصري فلما وصلوا إلى الناصري حرضوه على سرعة الحركة وعرفوه ما الظاهر فيه من الخوف والجبن عن ملاقاته فقوي بذلك قلب الناصري وهو إلى الآن يأخذ في أمر الملك الظاهر ويعطي. ثم جلس الملك الظاهر صبيحة هرب الأمراء بالإيوان من قلعة الجبل وهو يوم الثلاثاء ثامن عشرينه وأنفق على المماليك جميعها لكل مملوك من مماليك السلطان ومماليك الأمراء لكل واحد خمسمائة درهم فضة واستدعاهم طائفة بعد طائفة وأعطى كل واحد بيده وصار يحرضهم على القتال معه وبكى بكاء شديدًا في الملأ. ثم فرق جميع الخيول حتى خيل الخاص في الأمراء والأجناد وأعطى الأمير أقبغا المارديني حاجب الحجاب جملة كبيرة من المال ليفرقه على الزعر. وعظم أمر الزعر وبطل الحكم من القاهرة وصار الأمر فيها لمن غلب وتعطلت الأسواق وأكثر الناس من شراء البقسماط والدقيق والدهن ونحو ذلك. ثم وصل الخبر على السلطان بنزول الناصري على الصالحية بمن معه وقد وقف لهم عدة خيول في الرمل وأنه لما وجد الصالحية خالية من العسكر سجد لله تعالى شكرًا فإنه كان يخاف أن يتلقاه عسكر السلطان بها ولو تلقاه عسكر السلطان لما وجد لعسكره منعة للقتال لضعف خيولهم وشدة تعبهم فلهذا كان حمده لله تعالى. وأخبر السلطان أيضًا أن الناصري لما نزل الصالحية تلقاه عرب العائد مع كبيرهم الأمير شمس الدين محمد بن عيسى وخدموه بالإقامات والشعير وغيرها فرد بذلك رمقهم. فلما سمع السلطان ذلك رسم للأتابك الأمير قرا دمرداش الأحمدي أن يتوجه لكشف الأخبار من جهة بركة الحبش مخافة أن يأتي أحد من قبل إطفيح فسار لذلك. ثم رتب السلطان العسكر نوبتين: نوبة لحفظ النهار ونوبة لحفظ الليل وسير ابن عمه الأمير قجماس في عدة أمراء إلى المرج والزيات طليعة للكشف. ثم في يوم الأربعاء تاسع عشرين جمادى الأولى المذكور أنفق السلطان في مماليك أمراء الطبلخانات والعشرات فأعطى كل واحد أربعمائة درهم فضة. وأنفق السلطان أيضًا في الطبردارية والبزدارية والأوجاقية وأعطاهم القسي والنشاب. ثم رتب من الأجناد البطالين جماعة بين شرفات القلعة ليرموا على من لعله يحاصر القلعة وأنفق فيهم أيضًا. ثم استدعى السلطان رماة قسي الرجل من ثغر الإسكندرية فحضر منهم جماعة كبيرة وأنفق فيهم الأموال. ثم عاد الأمير قجماس بمن معه من المرج والزيات وأخبر السلطان أنه لم يقف للقوم على خبر. ثم خرج الأمير سودون الطرنطائي في ليلة الخميس في عدة من الأمراء والمماليك إلى قبة النصر للحرس وسارت طائفة أخرى إلى بركة الحبش. وبات السلطان بالإسطبل السلطاني ساهرًا لم ينم ومعه الأمير سودون الشيخوني النائب والأتابك قرا دمرداش الأحمدي بعد أن عاد من بركة الحبش وعدة كبيرة من المماليك والأمراء.
|